فصل: تفسير الآيات رقم (18 - 20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏99 - 102‏]‏

‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ‏}‏ يعني‏:‏ إبراهيم ‏{‏إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ مهاجر إلى ربي، والمعنى‏:‏ أهجر دار الكفر وأذهب إلى مرضاة ربي، قاله بعد الخروج من النار، كما قال‏:‏ ‏"‏إني مهاجر إلى ربي‏"‏ ‏[‏العنكبوت - 26‏]‏، ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ إلى حيث أمرني بالمصير إليه، وهو الشام‏.‏

قال مقاتل‏:‏ فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ يعني‏:‏ هب لي ولدا صالحا من الصالحين‏.‏

‏{‏فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ‏}‏ قيل‏:‏ غلام في صغره، حليم في كبره، ففيه بشارة أنه ابن وأنه يعيش فينتهي في السن حتى يوصف بالحلم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ يعني المشي معه إلى الجبل‏.‏ وقال مجاهد عن ابن عباس‏:‏ لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم والمعنى‏:‏ بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يعني العمل لله تعالى، وهو قول الحسن ومقاتل بن حيان وابن زيد، قالوا‏:‏ هو العبادة لله تعالى‏.‏

واختلفوا في سنه، قيل‏:‏ كان ابن ثلاث عشرة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ كان ابن سبع سنين‏.‏

‏{‏قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ‏}‏ واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه بعد اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق، فقال قوم‏:‏ هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة‏:‏ عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، ومن التابعين وأتباعهم‏:‏ كعب الأحبار، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، وعطاء، ومقاتل، والزهري، والسدي، وهي رواية عكرمة وسعيد بن جبير ‏[‏عن ابن عباس، وقالوا‏:‏ كانت هذه القصة بالشام‏]‏‏.‏

وروي عن سعيد بن جبير قال‏:‏ أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش، ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة وطويت له الأودية والجبال‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هو إسماعيل، وإليه ذهب عبد الله بن عمر، وهو قول سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن البصري، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وهي رواية عطاء بن أبي رباح، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس، قال‏:‏ المفدى إسماعيل‏.‏

وكلا القولين يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق احتج من القرآن بقوله‏:‏ ‏"‏فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي‏"‏ ‏[‏الصافات - 101‏]‏ أمره بذبح من بشره به، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق، كما قال في سورة هود‏:‏ ‏"‏فبشرناها بإسحاق‏"‏ ‏[‏هود - 71‏]‏‏.‏

ومن ذهب إلى أنه إسماعيل احتج بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال‏:‏ ‏"‏وبشرناه بإسحاق نبيًا من الصالحين‏"‏ ‏[‏الصافات - 112‏]‏ دل على أن المذبوح غيره، وأيضًا قال الله تعالى في سورة هود‏:‏ ‏"‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏"‏ ‏[‏هود - 71‏]‏ فكما بشره بإسحاق بشره بابنه يعقوب، فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه‏.‏

قال القرظي‏:‏ سأل عمر بن عبد العزيز رجلا كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه‏:‏ أي ابني إبراهيم أمر بذبحه‏؟‏ فقال‏:‏ إسماعيل، ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله تعالى بذبحه، ويزعمون أنه إسحاق‏.‏

ومن الدليل عليه‏:‏ أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج‏.‏

قال الشعبي‏:‏ رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، قد وحش، يعني يبس‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل‏؟‏ فقال‏:‏ يا صميع أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة‏؟‏ إنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه‏.‏

وأما قصة الذبح قال السدي‏:‏ لما دعا إبراهيم فقال‏:‏ رب هب لي من الصالحين، وبشر به، قال‏:‏ هو إذًا لله ذبيح، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له‏:‏ أوف بنذرك، هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بذبح ابنه، فقال عند ذلك، لإسحاق‏:‏ انطلق فقرب قربانًا لله تعالى فأخذ سكينًا وحبلا وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال، فقال له الغلام‏:‏ يا أبت أين قربانك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر‏"‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أمر في المنام أن يذبحه، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له‏:‏ إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روي في نفسه أي‏:‏ فكر من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان‏؟‏ فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانيًا، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله عز وجل، فمن ثم سمي يوم عرفة‏.‏

قال مقاتل‏:‏ رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متواليات، فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه، فقال‏:‏ ‏"‏يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى‏"‏‏.‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏ترى‏"‏ بضم التاء وكسر الراء - ماذا تشير، وإنما أمره ليعلم صبره على أمر الله تعالى، وعزيمته على طاعته‏.‏

وقرأ العامة بفتح التاء والراء إلا أبا عمرو فإنه يميل الراء‏.‏

قال له ابنه‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ‏}‏ وقال ابن إسحاق وغيره‏:‏ فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه‏:‏ يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر، ‏{‏قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا‏}‏ انقادا وخضعا لأمر الله تعالى، قال قتادة‏:‏ أسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه، ‏{‏وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ أي‏:‏ صرعه على الأرض‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ اضجعه على جبينه على الأرض والجبهة بين الجبينين، قالوا‏:‏ فقال له ابنه الذي أراد ذبحه‏:‏ يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك، وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون عليَّ فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل، فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال له إبراهيم عليه السلام‏:‏ نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه، ثم أقبل عليه فقبله وقد ربطه وهو يبكي ‏[‏والابن أيضًا يبكي‏]‏ ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تحك السكين‏.‏

ويروى أنه كان يجر الشفرة في حلقه فلا تقطع، فشحذها مرتين أو ثلاثة بالحجر، كل ذلك لا تستطيع‏.‏

قال السدي‏:‏ ضرب الله تعالى صفحة من نحاس على حلقه قالوا‏:‏ فقال الابن عند ذلك‏:‏ يا أبت كبني لوجهي على جبيني فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله تعالى، وإني لا أنظر إلى الشفرة فأجزع، ففعل ذلك إبراهيم ثم وضع الشفرة على قفاه فانقلبت السكين ونودي‏:‏ أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا‏.‏

وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قال‏:‏ لما رأى إبراهيم ذبح ابنه قال الشيطان‏:‏ لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدًا أبدًا، فتمثل له الشيطان رجلا وأتى أم الغلام، فقال لها‏:‏ هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك‏؟‏ قالت‏:‏ ذهب به يحتطبان من هذا الشعب، قال‏:‏ لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت‏:‏ كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك، قال‏:‏ إنه يزعم أن الله قد أمره بذلك، قالت‏:‏ فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه، فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه، فقال له‏:‏ يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك‏؟‏ قال‏:‏ نحتطب لأهلنا من هذا الشعب، قال‏:‏ والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ زعم أن ربه أمره بذلك، قال‏:‏ فليفعل ما أمره به ربه فسمعًا وطاعة، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم عليه السلام فقال له‏:‏ أين تريد أيها الشيخ‏؟‏ قال‏:‏ أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، قال‏:‏ والله إني لا أرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك هذا، فعرفه إبراهيم عليه السلام، فقال‏:‏ إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي، فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئًا مما أراد، قد امتنعوا منه بعون الله تعالى‏.‏ وروى أبو الطفيل عن ابن عباس‏:‏ أن إبراهيم لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله عز وجل‏.‏

قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏فلما أسلما وتله للجبين‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104 - 107‏]‏

‏{‏وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَادَيْنَاهُ‏}‏ الواو في ‏"‏وناديناه‏"‏ مقحمة صلة، مجازه‏:‏ ناديناه كقوله‏:‏ ‏"‏وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه‏"‏ ‏[‏يوسف - 15‏]‏ أي‏:‏ أوحينا إليه، فنودي من الجبل‏:‏ ‏{‏أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا‏}‏، تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ والمعنى‏:‏ إنا كما عفونا إبراهيم عن ذبح ولده نجزي من أحسن في طاعتنا، قال مقاتل‏:‏ جزاه الله بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه‏.‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ‏}‏ الاختيار الظاهر حيث اختبره بذبح ابنه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ البلاء هاهنا‏:‏ النعمة، وهي أن فدي ابنه بالكبش‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قال‏:‏ صدقت الرؤيا، وكان قد رأى الذبح ولم يذبح‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ جعله مصدقًا لأنه قد أتى بما أمكنه، والمطلوب إسلامهما لأمر الله تعالى وقد فعلا‏.‏

وقيل‏:‏ ‏[‏كان قد‏]‏ رأى في النوم معاجلة الذبح ولم ير إراقة الدم، وقد فعل في اليقظة ما رأى في النوم، فلذلك قال له‏:‏ ‏"‏قد صدقت الرؤيا‏"‏‏.‏

‏{‏وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ فنظر إبراهيم فإذا هو بجبريل ومعه كبش أملح أقرن، فقال‏:‏ هذا فداء لابنك فاذبحه دونه، فكبر جبريل، وكبر الكبش، وكبر ابنه، فأخذ إبراهيم الكبش فأتى به المنحر من منى فذبحه‏.‏

قال أكثر المفسرين‏:‏ كان ذلك الكبش رعى في الجنة أربعين خريفًا‏.‏

وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قربه ابن آدم هابيل‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ حق له أن يكون عظيمًا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ سماه عظيمًا لأنه متقبل‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ لأنه كان من عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ عظيم في الشخص‏.‏ وقيل‏:‏ في الثواب‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108 - 122‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ‏(‏108‏)‏ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏109‏)‏ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏110‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏111‏)‏ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏115‏)‏ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏116‏)‏ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ ‏(‏119‏)‏ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏121‏)‏ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ تركنا له في الآخرين ثناءً حسنًا‏.‏

‏{‏سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ فمن جعل الذبيح إسماعيل قال‏:‏ بشره بعد هذه القصة بإسحاق نبيًا جزاء لطاعته، ومن جعل الذبيح إسحاق قال‏:‏ بشر إبراهيم بنبوة إسحاق‏.‏ رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ بشر به مرتين حين ولد وحين نبئ‏.‏

‏{‏وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ على إبراهيم في أولاده، ‏{‏وعلى إسحاق‏}‏ بكون أكثر الأنبياء من نسله، ‏{‏وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ‏}‏ أي‏:‏ مؤمن، ‏{‏وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ‏}‏ أي‏:‏ كافر، ‏{‏مُبِينٌ‏}‏ ظاهر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ‏}‏ أنعمنا عليهما بالنبوة‏.‏

‏{‏وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا‏}‏ بني إسرائيل، ‏{‏مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ‏}‏ أي‏:‏ الغم العظيم وهو الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم‏.‏ وقيل‏:‏ من الغرق‏.‏

‏{‏وَنَصَرْنَاهُم‏}‏ يعني‏:‏ موسى وهارون وقومهما، ‏{‏فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ‏}‏ على القبط‏.‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ‏}‏ أي‏:‏ المستنير وهو التوراة‏.‏

‏{‏وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ روي عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ إلياس هو إدريس‏.‏ وفي مصحفه‏:‏ وإن إدريس لمن المرسلين‏.‏ وهذا قول عكرمة‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ هو نبي من أنبياء بني إسرائيل‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هو ابن عم اليسع‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ هو إلياس بن بشر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران‏.‏

وقال أيضا محمد بن إسحاق، والعلماء من أصحاب الأخبار‏:‏ لما قبض الله عز وجل حزقيل النبي صلى الله عليه وسلم، عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك، ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله عز وجل إليهم إلياس نبيًا وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة، وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام، وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون لما فتح الشام بوأها بني إسرائيل وقسمها بينهم، فأحل سبطا منهم ببعلبك ونواحيها، وهم السبط الذين كان منهم إلياس فبعثه الله تعالى إليهم نبيًا، وعليهم يومئذ ملك يقال له‏:‏ آجب قد أضل قومه وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنمًا يقال له‏:‏ بعل، وكان طوله عشرين ذراعًا وله أربعة وجوه، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله عز وجل وهم لا يسمعون منه شيئًا إلا ما كان من أمر الملك فإنه صدقه وآمن به فكان إلياس يقوم أمره ويسدده ويرشده، وكان لآجب الملك هذا امرأة يقال لها‏:‏ أزبيل وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها، وكانت تبرز للناس وتقضي بين الناس، وكانت قتالة للأنبياء، يقال‏:‏ هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام، وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه، وكان قد خلص من يدها ثلثمائة نبي كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم، وكانت في نفسها غير محصنة، وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل، وقتلت كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال أنها ولدت سبعين ولدًا وكان لآجب هذا جار رجل صالح يقال له مزدكي، وكانت له جنينة يعيش منها، ويقبل على عمارتها ومرمتها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان آجب الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي، ويحسن إليه، وامرأته أزبيل تحسده لأجل تلك الجنينة، وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها، وتحتال أن تقتله والملك ينهاها عن ذلك ولا تجد عليه سبيلا ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك فجمعت جمعًا من الناس

وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سب زوجها آجب فأجابوها إليه، وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سب الملك إذا قامت عليه البينة، فأحضرت مزدكي وقالت له‏:‏ بلغني أنك شتمت الملك فأنكر مزدكي، فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور، فأمرت بقتله وأخذت جنينته، فغضب الله عليهم للعبد الصالح، فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر، فقال لها‏:‏ ما أصبت ولا أرانا نفلح بعده، فقد جاورنا منذ زمان فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا، فختمت أمره بأسوأ الجوار، فقالت‏:‏ إنما غضبت لك وحكمت بحكمك، فقال لها‏:‏ أو ما كان يسعه حلمك فتحفظين له جواره‏؟‏ قالت‏:‏ قد كان ما كان، فبعث الله تعالى إلياس إلى آجب الملك وقومه، وأمره أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب لوليه حين قتلوه ظلمًا، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما، يعني آجب وامرأته، في جوف الجنينة، ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما، ولا يتمتعان بها إلا قليلا قال‏:‏ فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله تعالى إليه في أمره وأمر امرأته ورد الجنينة، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له‏:‏ يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلا وما أرى فلانًا وفلانًا - سمى ملوكًا منهم قد عبدوا الأوثان - إلا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويتمتعون مملكين ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لنا عليهم من فضل، قال‏:‏ وهَمَّ الملك بتعذيب إلياس وقتله، فلما أحس إلياس بالشر ‏[‏والمكر به‏]‏ رفضه وخرج عنه، فلحق بشواهق الجبال، وعاد الملك إلى عبادة بعل، وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه‏.‏

ويقال‏:‏ إنه بقي سبع سنين شريدًا خائفًا يأوي إلى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون والله يستره، فلما مضى سبع سنين أذن الله في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم، فأمرض الله عز وجل ابنًا لآجب وكان أحب ولده إليه وأشبههم به، فأدنف حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلا - وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن - فوكلوهم به وجعلوهم أنبياءه، وكان الشيطان يدخل في جوف الصنم فيتكلم، والأربعمائة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيبثونها للناس، فيعملون بها ويسمونهم أنبياء‏.‏

فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوا إلى بعل، ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء فدعوه فلم يجبهم، ومنع الله الشيطان فلم يمكنه الولوج في جوفه، وهم مجتهدون في التضرع إليه، فلما طال عليهم ذلك قالوا لآجب‏:‏ إن في ناحية الشام آلهة أخرى فابعث إليها أنبياءك فلعلها تشفع لك إلى إلهك بعل، فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لأجابك، قال آجب‏:‏ ومن أجل ماذا غضب عليَّ وأنا أطيعه‏؟‏ قالوا‏:‏ من أجل أنك لم تقتل إلياس وفرطت فيه حتى نجا سليمًا وهو كافر بإلهك، قال آجب‏:‏ وكيف لي أن أقتل إلياس وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني، وليس لإلياس مطلب ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفي ابني لفرغت لطلبه حتى أجده فأقتله فأرضي إلهي، ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمائة إلى الآلهة التي بالشام يسألونها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه، فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس أوحى الله تعالى إلى إلياس عليه السلام أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويكلمهم، وقال له‏:‏ لا تخف فإني سأصرف عنك شرهم وألقي الرعب في قلوبهم، فنزل إلياس من الجبل، فلما لقيهم استوقفهم، فلما وقفوا قال لهم‏:‏ إن الله تعالى أرسلني إليكم وإلى من ورائكم فاسمعوا أيها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم فارجعوا إليه، وقولوا له‏:‏ إن الله تعالى يقول لك‏:‏ ألست تعلم يا آجب إني أنا الله لا إله إلا أنا إله بني إسرائيل الذي خلقهم، ورزقهم وأحياهم وأماتهم، فجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئًا إلا ما شئت، إني حلفت باسمي لأغيظنك في ابنك ولأميتنه في فوره هذا حتى تعلم أن أحدًا لا يملك له شيئًا دوني‏.‏

فلما قال لهم هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبًا، فلما صاروا إلى الملك أخبروه بأن إلياس قد انحط عليهم، وهو رجل نحيف طوال قد نحل وتمعط شعره وتقشر جلده، عليه جبة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال فاستوقفنا فلما صار معنا قذف له في قلوبنا الهيبة والرعب فانقطعت ألسنتنا ونحن في هذا العدد الكثير فلم نقدر على أن نكلمه ونراجعه حتى رجعنا إليك، وقصوا عليه كلام إلياس، فقال آجب‏:‏ لا ننتفع بالحياة ما كان إلياس حيًا وما يطاق إلا بالمكر والخديعة، فقيض له خمسين رجلا من قومه ذوي القوة والبأس، وعهد إليهم عهده، وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال به وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به، هم ومن وراءهم ‏[‏ليستنهم إليهم‏]‏ ويغتر بهم فيمكنهم من نفسه فيأتون به ملكهم، فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس، ثم تفرقوا فيه ينادونه بأعلى أصواتهم، ويقولون‏:‏ يا نبي الله ابرز لنا وامنن علينا بنفسك، فإنا قد آمنا بك وصدقناك، وملكنا آجب وجميع قومنا، وأنت آمن على نفسك، وجميع بني إسرائيل يقرؤون عليك السلام ويقولون‏:‏ قد بلغتنا رسالتك وعرفنا ما قلت، ‏[‏فآمنا بك وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلم إلينا وأقم بين أظهرنا واحكم فينا‏]‏ فإنا ننقاد لما أمرتنا، وننتهي عما نهيتنا وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا، فارجع إلينا‏.‏ وكل هذا منهم مماكرة وخديعة‏.‏

فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت في قلبه وطمع في إيمانهم، وخاف الله إن هو لم يظهر لهم، فألهمه الله التوقف والدعاء، فقال‏:‏ اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لي في البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم، فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم، فاحترقوا أجمعين، قال‏:‏ وبلغ آجب الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء، واحتال ثانيًا في أمر إلياس، وقيض له فئة أخرى مثل عدد أولئك أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي، فأقبلوا، أي‏:‏ حتى توقلوا، أي‏:‏ صعدوا قلل تلك الجبال متفرقين، وجعلوا ينادون يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته، إنا لسنا كالذين أتوك قبلنا وإن أولئك فرقة نافقوا فصاروا إليك ليكيدوا بك في غير رأينا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم، فالآن قد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم وانتقم لنا ولك منهم، فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأولى فأمطر عليهم النار، فاحترقوا عن آخرهم، وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه، فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيًا ازداد غضبًا على غضب، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه، إلا أنه شغله عن ذلك مرض ابنه، فلم يمكنه فوجه نحو إلياس المؤمن الذي هو كاتب امرأته رجاء أن يأنس به إلياس فينزل معه، وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءًا، وإنما أظهر له لما اطلع عليه من إيمانه، وكان الملك مع اطلاعه على إيمانه مغضيًا عليه لما هو عليه من الكفاية والأمانة وسداد الرأي، فلما وجهه نحوه أرسل معه فئة من أصحابه، وأوعز إلى الفئة - دون الكاتب - أن يوثقوا إلياس ويأتوا به إن أراد التخلف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقًا به لم يروعوه، ثم أظهر مع الكاتب الإنابة وقال له‏:‏ قد آن لي أن أتوب وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذي فيه ابني، وقد عرفت أن ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته، فانطلق إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا، وأنه لا يصلحنا في توبتنا، وما نريد من رضاء ربنا وخلع أصنامنا إلا أن يكون إلياس بين أظهرنا، يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يرضي ربنا، وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام، وقال له‏:‏ أخبر إلياس أنا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد، وأرجينا أمرها حتى ينزل إلياس فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها، وكان ذلك مكرًا من الملك‏.‏

فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس ثم ناداه، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وكان مشتاقًا إلى لقائه فأوحى الله تعالى إليه أن ابرز إلى أخيك الصالح فالقه، وجدد العهد به فبرز إليه وسلم عليه وصافحه، وقال له‏:‏ ما الخبر‏؟‏ فقال المؤمن‏:‏ إنه قد بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه، ثم قص عليه ما قالوا ثم قال له‏:‏ وإني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني فمرني بما شئت أفعله، إن شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك وإن شئت ترسلني إليه بما تحب فأبلغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربك يجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا، فأوحى الله تعالى إلى إلياس أن كل شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك، وإن آجب إن أخبرته رسله أنك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك اتهمه وعرف أنه قد داهن في أمرك، فلم يأمن أن يقتله، فانطلق معه فإني سأشغل عنكما آجب فأضاعف على ابنه البلاء، حتى لا يكون له همٌّ غيره، ثم أميته على شر حال، فإذا مات فارجع عنه، قال فانطلق معهم حتى قدموا على آجب، فلما قدموا شدد الله تعالى الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه، فشغل الله تعالى بذلك آجب وأصحابه عن إلياس، فرجع إلياس سالمًا إلى مكانه، فلما مات ابن آجب وفرغوا من أمره وقل جزعه انتبه لإلياس، وسأل عنه الكاتب الذي جاء به، فقال‏:‏ ليس لي به علم شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه، ولم أكن أحسبك إلا قد استوثقت منه، فانصرف عنه آجب وتركه لما فيه من الحزن على ابنه‏.‏

فلما طال الأمر على إلياس ملَّ السكون في الجبال واشتاق إلى الناس نزل من الجبل فانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل، وهي أم يونس بن متى ذي النون استخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع، فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها، ثم إن إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال، فأحب اللحوق بالجبال فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أم يونس لفراقه فأوحشها فقده، ثم لم تلبث إلا يسيرًا حتى مات ابنها يونس حين فطمته، فعظمت مصيبتها فخرجت في طلب إلياس، فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه، فوجدته وقالت له‏:‏ إني قد فجعت بعدك لموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي، وليس لي ولد غيره، فارحمني وادع لي ربك جل جلاله ليحيي لي ابني وإني قد تركته مسجى لم أدفنه، وقد أخفيت مكانه، فقال لها إلياس‏:‏ ليس هذا مما أمرت به، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرني ربي، فجزعت المرأة وتضرعت فأعطف الله تعالى قلب إلياس لها، فقال لها‏:‏ متى مات ابنك‏؟‏ قالت‏:‏ منذ سبعة أيام فانطلق إلياس معها وسار سبعة أيام أخرى حتى انتهى إلى منزلها، فوجد ابنها ميتًا له أربعة عشر يومًا، فتوضأ وصلى ودعا، فأحيا الله تعالى يونس بن متى، فلما عاش وجلس وثب إلياس وتركه وعاد إلى موضعه‏.‏

فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعًا فأوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود‏:‏ يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه‏؟‏ ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي‏؟‏ فسلني أعطك، فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم، قال‏:‏ تميتني وتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا إلياس ما هذا باليوم الذي أعري عنك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وبأشباهك، وإن كنتم قليلا ولكن سلني فأعطك، فقال إلياس‏:‏ إن لم تمتني فأعطني ثأري من بني إسرائيل، قال الله تعالى‏:‏ فأي شيء تريد أن أعطيك‏؟‏ قال تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشر عليهم سحابة إلا بدعوتي، ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي، فإنهم لا يذلهم إلا ذلك، قال الله تعالى‏:‏ يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك، وإن كانوا ظالمين، قال‏:‏ فست سنين، قال‏:‏ أنا أرحم بخلقي من ذلك، قال‏:‏ فخمس سنين، قال‏:‏ أنا أرحم بخلقي من ذلك ولكني أعطيك ثأرك ثلاث سنين، أجعل خزائن المطر بيدك، قال إلياس‏:‏ فبأي شيء أعيش‏؟‏ قال‏:‏ أسخر لك جيشًا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط، قال إلياس‏:‏ قد رضيت، قال‏:‏ فأمسك الله تعالى عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر وجهد الناس جهدًا شديدًا، وإلياس على حالته مستخف من قومه، يوضع له الرزق حيث ما كان، وقد عرف ذلك قومه وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في بيت قالوا‏:‏ لقد دخل إلياس هذا المكان، وطلبوه ولقي من أهل ذلك المنزل شرًا‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمر إلياس بعجوز فقال لها‏:‏ هل عندك طعام‏؟‏ قالت‏:‏ نعم شيء من دقيق وزيت قليل، قال‏:‏ فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملأ جرابها دقيقًا، وملأ خوابيها زيتًا، فلما رأوا ذلك عندها قالوا‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ قالت‏:‏ مر بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بوصفه فعرفوه، فقالوا‏:‏ ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم، ثم إنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب، به ضر فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع اليسع إلياس فآمن به وصدقه ولزمه، وكان يذهب حيث ما ذهب وكان إلياس قد أسن فكبر واليسع شاب، ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس‏:‏ أنك قد أهلكت كثيرًا من الخلق ممن لم يعص من البهائم والدواب والطير والهوام بحبس المطر، فيزعمون - والله أعلم - أن إلياس قال‏:‏ يا رب دعني أكن أنا الذي أدعوا لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء، لعلهم أن يرجعوا وينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك، فقيل له‏:‏ نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل، فقال‏:‏ إنكم قد هلكتم جوعًا وجهدًا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل، فنزعتم ودعوت الله تعالى ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء، قالوا‏:‏ أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها، فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، ثم قالوا لإلياس‏:‏ إنا قد هلكنا فادع الله تعالى لنا، فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون، فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم، وأحييت بلادهم، فلما كشف الله تعالى عنهم الضر نقضوا العهد، ولم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون‏:‏ انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أمر أقبل فرس من نار، وقيل‏:‏ لونه كلون النار، حتى وقف بين يديه، فوثب عليه إلياس، فانطلق به الفرس فناداه اليسع‏:‏ يا إلياس، ما تأمرني‏؟‏ فقذف إليه إلياس بكسائه من الجو الأعلى، فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، فكان ذلك آخر العهد به، فرفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وكساه الريش فكان إنسيًا ملكيًا أرضيًا سماويًا، وسلط الله تعالى على آجب الملك وقومه عدوًا لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم، فقتل آجب وامرأته أزبيل في بستان مزدكي، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما، ونبأ الله تعالى اليسع وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، وأوحى الله تعالى إليه وأيده، فآمنت به بنو إسرائيل فكانوا يعظمونه، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع‏.‏

وروى السري بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد، قال‏:‏ الخضر وإلياس يصومان شهر رمضان ببيت المقدس، ويوافيان الموسم في كل عام‏.‏

وقيل‏:‏ إن إلياس موكل بالفيافي، والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإن إلياس لمن المرسلين‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124 - 128‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ‏(‏125‏)‏ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ‏(‏126‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ‏}‏ أتعبدون ‏{‏بَعْلا‏}‏ وهو اسم صنم لهم كانوا يعبدونه، ولذلك سميت مدينتهم بعلبك، قال مجاهد وعكرمة وقتادة‏:‏ ‏"‏البعل‏"‏‏:‏ الرب بلغة أهل اليمن‏.‏

‏{‏وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ‏}‏ فلا تبعدونه‏.‏

‏{‏اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، ويعقوب‏:‏ ‏"‏الله ربكم ورب‏"‏ بنصب الهاء والباءين على البدل، وقرأ الآخرون برفعهن على الاستئناف‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ في النار‏.‏

‏{‏إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ من قومه فإنهم نجوا من العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏129 - 139‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ‏(‏129‏)‏ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ‏(‏130‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏131‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏134‏)‏ إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏135‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ ‏(‏136‏)‏ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ‏(‏137‏)‏ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ‏(‏138‏)‏ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ‏}‏ قرأ نافع وابن عامر‏:‏ ‏"‏آل ياسين‏"‏ بفتح الهمزة مشبعة، وكسر اللام مقطوعة، لأنها في المصحف مفصولة، ‏[‏وقرأ الآخرون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة‏]‏ فمن قرأ ‏"‏آل يس‏"‏ مقطوعة، قيل‏:‏ أراد آل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا القول بعيد لأنه لم يسبق له ذكر‏.‏ وقيل‏:‏ أراد آل إلياس‏.‏

والقراءة المعروفة بالوصل، واختلفوا فيه، فقد قيل‏:‏ إلياسين لغة في إلياس، مثل‏:‏ إسماعيل وإسماعين، وميكائيل وميكائين‏.‏

وقال الفراء‏:‏ هو جمع أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين، فيكون بمنزلة الأشعرين والأعجمين بالتخفيف، وفي حرف عبد الله بن مسعود‏:‏ سلام على إدراسين يعني‏:‏ إدريس وأتباعه، لأنه يقرأ‏:‏ وإن إدريس لمن المرسلين‏.‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ الباقين في العذاب‏.‏

‏{‏ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ‏}‏ والتدمير‏:‏ الإهلاك‏.‏

‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ‏}‏ على آثارهم ومنازلهم، ‏{‏مُصْبِحِينَ‏}‏ وقت الصباح‏.‏

‏{‏وَبِاللَّيْلِ‏}‏ يريد‏:‏ تمرون بالنهار وبالليل عليهم إذا ذهبتم إلى أسفاركم ورجعتم، ‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ فتعتبرون بهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ من جملة رسل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140 - 145‏]‏

‏{‏إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ يعني‏:‏ هرب‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما، ووهب‏:‏ كان يونس وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمشور منهم، فقصد البحر فركب السفينة، فاحتبست السفينة فقال الملاحون‏:‏ هاهنا عبد آبق من سيده، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فاقترعوا ثلاثًا فوقعت على يونس، فقال يونس‏:‏ أنا الآبق، وزج نفسه في الماء‏.‏

وروي في القصة‏:‏ أنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له، فجاء مركب فأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها، فحال الموج بينه وبين المركب ومر المركب، ثم جاءت موجة أخرى وأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب فأخذ الابن الأصغر، فبقي فريدًا، فجاء مركب آخر فركبه فقعد ناحية من القوم، فلما مرت السفينة في البحر ركدت، فاقترعوا، وقد ذكرنا القصة في سورة يونس‏.‏

فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَسَاهَمَ‏}‏ فقارع، والمساهمة‏:‏ إلقاء السهام على جهة القرعة، ‏{‏فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ‏}‏ المقروعين‏.‏

‏{‏فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ‏}‏ ابتلعه، ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ آت بما يلام عليه‏.‏

‏{‏فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ‏}‏ من الذاكرين لله قبل ذلك، وكان كثير الذكر، وقال ابن عباس‏:‏ من المصلين‏.‏ وقال وهب‏:‏ من العابدين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحًا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ شكر الله تعالى له طاعته القديمة‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏فلولا أنه كان من المسبحين‏"‏ في بطن الحوت‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ يعني قوله‏:‏ ‏"‏لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏"‏ ‏[‏الأنبياء - 87‏]‏‏.‏

‏{‏لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ لصار بطن الحوت له قبرًا إلى يوم القيامة‏.‏

‏{‏فَنَبَذْنَاهُ‏}‏ طرحناه، ‏{‏بِالْعَرَاءِ‏}‏ يعني‏:‏ على وجه الأرض، قال السدي‏:‏ بالساحل، والعراء‏:‏ الأرض الخالية عن الشجر والنبات ‏{‏وَهُوَ سَقِيمٌ‏}‏ عليل كالفرخ الممعط‏.‏ وقيل‏:‏ كان قد بلى لحمه ورق عظمه ولم يبق له قوة‏.‏

واختلفوا في مدة لبثه في بطن الحوت، فقال مقاتل بن حيان‏:‏ ثلاثة أيام‏.‏ وقال عطاء‏:‏ سبعة أيام‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ عشرين يومًا‏.‏ وقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان‏:‏ أربعين يومًا‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ التقمه ضحى ولفظه عشية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146 - 147‏]‏

‏{‏وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ له، وقيل‏:‏ عنده ‏{‏شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ القرع، على قول جميع المفسرين‏.‏

وقال الحسن ومقاتل‏:‏ كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين‏.‏

قال مقاتل بن حيان‏:‏ فكان يونس يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشية حتى اشتد لحمه ونبت شعره وقوي، فنام نومة فاستيقظ وقد يبست الشجرة فحزن حزنًا شديدًا وأصابه أذى الشمس فجعل يبكي، فبعث الله تعالى إليه جبريل وقال‏:‏ أتحزن على شجرة ولا تحزن على مائة ألف من أمتك وقد أسلموا وتابوا‏.‏ فإن قيل‏:‏ قال هاهنا‏:‏ ‏"‏فنبذناه بالعراء وهو سقيم‏"‏، وقال في موضع آخر‏:‏ ‏"‏لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء‏"‏ ‏[‏القلم - 49‏]‏ فهذا يدل على أنه لم ينبذ‏؟‏

قيل‏:‏ ‏"‏لولا‏"‏ هناك يرجع إلى الذم، معناه‏:‏ لولا نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، ولكن تداركه النعمة فنبذ، وهو غير مذموم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ‏}‏ قال قتادة‏:‏ أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه، وقوله‏:‏ ‏"‏وأرسلناه‏"‏ أي‏:‏ وقد أرسلناه، وقيل‏:‏ كان إرساله بعد خروجه من بطن الحوت إليهم، وقيل‏:‏ إلى قوم آخرين‏.‏ ‏{‏أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه‏:‏ ويزيدون‏"‏أو‏"‏ بمعنى الواو، كقوله‏:‏ ‏"‏عذرًا أو نذرًا‏"‏ ‏[‏المرسلات - 6‏]‏، وقال مقاتل والكلبي‏:‏ معناه بل يزيدون‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ ‏"‏أو‏"‏ هاهنا على أصله، ومعناه‏:‏ أو يزيدون على تقديركم وظنكم، كالرجل يرى قومًا فيقول‏:‏ هؤلاء ألف أو يزيدون، فالشك على تقدير المخلوقين، والأكثرون على أن معناه‏:‏ ويزيدون‏.‏

واختلفوا في مبلغ تلك الزيادة فقال ابن عباس، ومقاتل‏:‏ كانوا عشرين ألفًا، ورواه أبيُّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بضعًا وثلاثين ألفًا‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ سبعين ألفًا

تفسير الآيات رقم ‏[‏148 - 156‏]‏

‏{‏فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏فَآمَنُوا‏}‏ يعني‏:‏ الذين أرسل إليهم يونس بعد معاينة العذاب، ‏{‏فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ‏}‏ إلى انقضاء آجالهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَفْتِهِم‏}‏ فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ، ‏{‏أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ‏}‏ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله يقول‏:‏ جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين‏.‏

‏{‏أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا‏}‏ معناه‏:‏ أخلقنا الملائكة إناثًا، ‏{‏وَهُمْ شَاهِدُونَ‏}‏ حاضرون خلقنا إياهم، نظيره قوله‏:‏ ‏"‏أشهدوا خلقهم‏"‏ ‏[‏الزخرف - 19‏]‏‏.‏

‏{‏أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ‏}‏ من كذبهم، ‏{‏لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَصْطَفَى‏}‏ قرأ أبو جعفر‏:‏ ‏"‏لكاذبون اصطفى‏"‏ موصولا على الخبر عن قول المشركين، وعند الوقف يبتدئ‏:‏ ‏"‏اصطفى‏"‏ بكسر الألف، وقراءة العامة بقطع الألف، لأنها ألف استفهام دخلت على ألف الوصل، فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة مقطوعة، مثل‏:‏ استكبر ونحوها، ‏{‏أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ لله بالبنات ولكم بالبنين‏.‏

‏{‏أَفَلا تَذَكَّرُونَ‏}‏ أفلا تتعظون‏.‏

‏{‏أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ‏}‏ برهان بين على أن لله ولدًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏157 - 164‏]‏

‏{‏فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ‏}‏ الذي لكم فيه حجة ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ في قولكم‏.‏

‏{‏وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ أراد بالجنة‏:‏ الملائكة، سموا جنة لاجتنانهم عن الأبصار‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ حي من الملائكة يقال لهم الجن، ومنهم إبليس، قالوا‏:‏ هم بنات الله‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ قالوا - لعنهم الله - بل تزوج من الجن فخرج منها الملائكة تعالى الله عن ذلك، وقد كان زعم بعض قريش أن الملائكة بنات الله تعالى الله، فقال أبو بكر الصديق‏:‏ فمن أمهاتهم، قالوا‏:‏ سروات الجن‏.‏

وقال الحسن‏:‏ معنى النسب أنهم أشركوا الشياطين في عبادة الله، ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُم‏}‏ يعني قائلي هذا القول ‏{‏لَمُحْضَرُونَ‏}‏ في النار، ثم نزه نفسه عما قالوا فقال‏:‏

‏{‏سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏{‏إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ هذا استثناء من المحضرين، أي‏:‏ أنهم لا يحضرون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكُمْ‏}‏ يقول لأهل مكة‏:‏ ‏{‏وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ من الأصنام‏.‏

‏{‏مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ على ما تعبدون، ‏{‏بِفَاتِنِينَ‏}‏ بمضلين أحدًا‏.‏

‏{‏إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ‏}‏ إلا من قدر الله أنه سيدخل النار، أي‏:‏ سبق له في علم الله الشقاوة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ‏}‏ يقول جبرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم وما منا معشر الملائكة إلا له مقام معلوم، أي‏:‏ ما منا ملك إلا له مقام معلوم في السموات يعبد الله فيه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي أو يسبح‏.‏

وروينا عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أطت السماء، وحق لها أن تئط، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله‏"‏ قال السدي‏:‏ إلا له مقام معلوم في القربة والمشاهدة‏.‏

وقال أبو بكر الوراق‏:‏ إلا له مقام معلوم يعبد الله عليه، كالخوف والرجاء والمحبة والرضا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165 - 173‏]‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ هم الملائكة صفوا أقدامهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ صفوف الملائكة في السماء للعبادة كصفوف الناس في الأرض‏.‏

‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ‏}‏ أي‏:‏ المصلون المنزهون الله عن السوء، يخبر جبريل عليه السلام ‏[‏النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏ أنهم يعبدون الله بالصلاة والتسبيح، وأنهم ليسوا بمعبودين، كما زعمت الكفار، ثم أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال‏:‏

‏{‏وَإِنْ كَانُوا‏}‏ وقد كانوا يعني‏:‏ أهل مكة، ‏{‏لَيَقُولُونَ‏}‏ لام التأكيد‏.‏

‏{‏لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ‏}‏ أي‏:‏ كتابًا مثل كتاب الأولين‏.‏

‏{‏لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به، ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ هذا تهديد لهم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ‏}‏ وهي قوله‏:‏ ‏"‏كتب الله لأغلبن أنا ورسلي‏"‏ ‏[‏المجادلة - 21‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ حزب الله لهم الغلبة بالحجة والنصرة في العاقبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174 - 182‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏ فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَوَلّ‏}‏ أعرض ‏{‏عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الموت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يوم بدر‏.‏ وقال السدي‏:‏ حتى نأمرك بالقتال‏.‏ وقيل‏:‏ إلى أن يأتيهم عذاب الله، قال مقاتل بن حيان‏:‏ نسختها آية القتال‏.‏

‏{‏وَأَبْصِرْهُمْ‏}‏ إذا نزل بهم العذاب ‏{‏فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ذلك فقالوا‏:‏ متى هذا العذاب‏؟‏

قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نزلَ‏}‏ يعني‏:‏ العذاب ‏{‏بِسَاحَتِهِمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ بحضرتهم‏.‏ وقيل‏:‏ بفنائهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم، ‏{‏فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ فبئس صباح الكافرين الذين أنذروا بالعذاب‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، أخبرنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر، أتاها ليلا وكان إذا جاء قومًا بليل لم يغز حتى يصبح، قال‏:‏ فلما أصبح خرجت يهود خيبر بمساحيها ومكاتلها، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ محمد، والله، محمد والخميس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏"‏‏.‏

ثم كرر ما ذكرنا تأكيدًا لوعيد العذاب فقال‏:‏ ‏{‏وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ‏}‏ العذاب إذا نزل بهم، ‏{‏فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏ ثم نزه نفسه فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّة‏}‏ الغلبة والقوة، ‏{‏عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من اتخاذ الصاحبة والأولاد‏.‏

‏{‏وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ‏}‏ الذين بلغوا عن الله التوحيد والشرائع‏.‏

‏{‏وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء عليهم السلام‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا إبراهيم بن سهلويه، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا وكيع، عن ثابت بن أبي صفية، عن أصبغ بن نبانة، عن علي قال‏:‏ ‏"‏من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه‏:‏ سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين‏"‏

سورة ص

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ‏(‏1‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏ص‏}‏ قيل‏:‏ هو قسم، وقيل‏:‏ اسم السورة كما ذكرنا في سائر حروف التهجي في أوائل السور‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ ‏"‏ص‏"‏ مفتاح اسم الصمد، وصادق الوعد‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ معناه صدق الله‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ صدق محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ‏}‏ أي ذي البيان، قاله ابن عباس ومقاتل‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ذي الشرف، دليله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإنه لذكر لك ولقومك‏"‏ ‏[‏الزخرف - 44‏]‏، وهو قسم‏.‏

واختلفوا في جواب القسم، قيل‏:‏ جوابه قد تقدم، وهو قوله ‏"‏ص‏"‏ أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمدًا قد صدق‏.‏

وقال الفراء‏:‏ ‏"‏ص‏"‏ معناها‏:‏ وجب وحق، وهو جواب قوله‏:‏ ‏"‏والقرآن‏"‏ كما تقول‏:‏ نزل والله‏.‏

وقيل‏:‏ جواب القسم محذوف تقديره‏:‏ والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار، ودل على هذا المحذوف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ موضع القسم قوله‏:‏ ‏{‏بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ كما قال‏:‏ ‏"‏والقرآن المجيد بل عجبوا‏"‏ ‏[‏ ق - 2‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ بل الذين كفروا، ‏{‏فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏ والقرآن ذي الذكر‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ جوابه قوله ‏[‏تعالى‏:‏ إن كل إلا كذب الرسل‏"‏ ‏[‏ص - 14‏]‏، كقوله‏:‏ ‏"‏تالله إن كنا‏"‏ ‏[‏الشعراء - 97‏]‏ وقوله‏:‏ ‏"‏والسماء والطارق - إن كل نفس‏"‏ ‏[‏الطارق - 1‏:‏ 3 ‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏‏]‏ جوابه قوله‏:‏ ‏"‏إن هذا لرزقنا‏"‏ ‏[‏ص - 54‏]‏‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏إن ذلك لحق تخاصم أهل النار‏"‏ ‏[‏ص - 64‏]‏، وهذا ضعيف لأنه تخلل بين هذا القسم وبين هذا الجواب أقاصيص وأخبار كثيرة‏.‏

وقال القتيبي‏:‏ بل لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية‏:‏ إن الله أقسم بـ ص والقرآن ذي الذكر أن الذين كفروا من أهل مكة في عزة حمية جاهلية وتكبر عن الحق وشقاق وخلاف وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏"‏في عزة‏"‏ معازِّين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ‏}‏ يعني‏:‏ من الأمم الخالية، ‏{‏فَنَادَوْا‏}‏ استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة، ‏{‏وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ قوة ولا فرار ‏"‏والمناص‏"‏ مصدر ناص ينوص، وهو الفوت، والتأخر، يقال‏:‏ ناص ينوص إذا تأخر، وباص يبوص إذا تقدم، و‏"‏لات‏"‏ بمعنى ليس بلغة أهل اليمن‏.‏

وقال النحويون‏:‏ هي ‏"‏لا‏"‏ زيدت فيها التاء، كقولهم‏:‏ رب وربت وثم وثمت، وأصلها هاء وصلت بلا فقالوا‏:‏ ‏"‏لاه‏"‏ كما قالوا‏:‏ ثمة، فجعلوها في الوصل تاء، والوقف عليها بالتاء عند الزجاج، وعند الكسائي بالهاء‏:‏ ولاة‏.‏ ذهب جماعة إلى أن التاء زيدت في ‏"‏حين‏"‏ والوقف على ‏"‏ولا‏"‏ ثم يبتدئ‏:‏ ‏"‏تحين‏"‏، وهو اختيار أبي عبيدة، وقال‏:‏ كذلك وجدت في مصحف عثمان، وهذا كقول أبي وجزة السعدي‏:‏

العاطفون تحين ما من عاطف *** والمطمعون زمان ما من مطعم

وفي حديث ابن عمر، وسأله رجل عن عثمان، فذكر مناقبه ثم قال‏:‏ اذهب بها تلان إلى أصحابك، يريد‏:‏ الآن‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب، قال بعضهم لبعض‏:‏ مناص، أي‏:‏ اهربوا وخذوا حذركم، فلما أنزل الله بهم العذاب ببدر قالوا‏:‏ مناص، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ولات حين مناص‏"‏ ‏[‏أي ليس‏]‏ حين هذا القول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 5‏]‏

‏{‏وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏4‏)‏ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَجِبُوا‏}‏ يعني‏:‏ الكفار الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله‏:‏ ‏"‏بل الذين كفروا‏"‏ ‏{‏أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ رسولا من أنفسهم ينذرهم ‏{‏وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏‏.‏

‏{‏أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم، فشق ذلك على قريش، وفرح به المؤمنون، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش، وهم الصناديد والأشراف، وكانوا خمسة وعشرين رجلا أكبرهم سنًا الوليد بن المغيرة، قال لهم‏:‏ امشوا إلى أبي طالب، فأتوا أبا طالب، وقالوا له‏:‏ أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنا قد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه، فقال‏:‏ يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وماذا يسألوني‏؟‏ قالوا‏:‏ ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم‏؟‏ فقال أبو جهل‏:‏ لله أبوك لنعطيكها وعشرًا أمثالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قولوا لا إله إلا الله، ‏[‏فنفروا‏]‏ من ذلك وقاموا، وقالوا‏:‏ أجعل الآلهة إلهًا واحدًا‏؟‏ كيف يسع الخلق كلهم إله واحد‏؟‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ أي‏:‏ عجيب، والعجب والعجاب واحد، كقولهم‏:‏ رجل كريم وكرام، وكبير وكبار، وطويل وطوال، وعريض وعراض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 9‏]‏

‏{‏وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ‏(‏6‏)‏ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ ‏(‏7‏)‏ أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ‏(‏8‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب، يقول بعضهم لبعض‏:‏ امشوا واصبروا على آلهتكم، أي‏:‏ اثبتوا على عبادة آلهتكم ‏{‏إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ‏}‏ أي لأمر يراد بنا، وذلك أن عمر لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا‏:‏ إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لشيء يراد بنا‏.‏

وقيل‏:‏ يراد بأهل الأرض، وقيل‏:‏ يراد بمحمد أن يملك علينا‏.‏

‏{‏مَا سَمِعْنَا بِهَذَا‏}‏ أي بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد، ‏{‏فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما، والكلبي، ومقاتل‏:‏ يعنون النصرانية، لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون، بل يقولون ثالث ثلاثة‏.‏

وقال مجاهد وقتادة‏:‏ يعنون ملة قريش ودينهم الذي هم عليه‏.‏

‏{‏إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ‏}‏ كذب وافتعال‏.‏

‏{‏أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ‏}‏ القرآن ‏{‏مِنْ بَيْنِنَا‏}‏ وليس بأكبرنا ولا أشرفنا، يقوله أهل مكة‏.‏ قال الله عز وجل‏:‏

‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي‏}‏ أي وحيي وما أنزلت، ‏{‏بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ‏}‏ ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول‏.‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمْ‏}‏ أعندهم، ‏{‏خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ‏}‏ أي‏:‏ نعمة ربك يعني‏:‏ مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا، نظيره‏:‏ ‏"‏أهم يقسمون رحمة ربك‏"‏ ‏[‏الزخرف - 32‏]‏ أي نبوة ربك، ‏{‏الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ‏}‏ ‏[‏العزيز في ملكه، الوهاب‏]‏ وهب النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 12‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ ‏(‏10‏)‏ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزَابِ ‏(‏11‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أي‏:‏ ليس لهم ذلك، ‏{‏فَلْيَرْتَقُوا فِي الأسْبَابِ‏}‏ أي‏:‏ إن ادعوا شيئًا من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء، وليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون، قال مجاهد وقتادة‏:‏ أراد بالأسباب‏:‏ أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء، وكل ما يوصلك إلى شيء من باب أو طريق فهو سببه، وهذا أمر توبيخ وتعجيز‏.‏

‏{‏جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ‏}‏ أي‏:‏ هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند هنالك، و‏"‏ما‏"‏ صلة، ‏{‏مَهْزُومٌ‏}‏ مغلوب، ‏{‏مِنَ الأحْزَابِ‏}‏ أي‏:‏ من جملة الأجناد، يعني‏:‏ قريشًا‏.‏

قال قتادة‏:‏ أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين، فقال‏:‏ ‏"‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏"‏ ‏[‏القمر - 45‏]‏ فجاء تأويلها يوم بدر، و‏"‏هنالك‏"‏ إشارة إلى بدر ومصارعهم، ‏"‏من الأحزاب‏"‏ أي‏:‏ من جملة الأحزاب، أي‏:‏ هم من القرون الماضية الذين تحزبوا وتجمعوا على الأنبياء بالتكذيب، فقهروا وأهلكوا‏.‏ ثم قال معزيًا لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ‏}‏ قال ابن عباس، ومحمد بن كعب‏:‏ ذو البناء المحكم، وقيل‏:‏ أراد ذو الملك الشديد الثابت‏.‏

وقال القتيبي‏:‏ تقول العرب‏:‏ هم في عز ثابت الأوتاد، يريدون أنه دائم شديد‏.‏

وقال الأسود بن يعفر‏:‏ ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد فأصل هذا أن بيوتهم كانت تثبت بالأوتاد‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ذو القوة والبطش‏.‏ وقال عطية‏:‏ ذو الجنود والجموع الكثيرة، يعني‏:‏ أنهم كانوا يقوون أمره، ويشدون ملكه، كما يقوي الوتد الشيء، وسميت الأجناد أوتادًا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم، وهو رواية عطية عن ابن عباس‏.‏

وقال الكلبي ومقاتل‏:‏ ‏"‏الأوتاد‏"‏ جمع الوتد، وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها، وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيًا بين أربعة أوتاد، وشد كل يد ورجل منه إلى سارية، ويتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتى يموت‏.‏

وقال مجاهد، ومقاتل بن حيان‏:‏ كان يمد الرجل مستلقيًا على الأرض، يشد يديه ورجليه ورأسه على الأرض بالأوتاد‏.‏

وقال السدي‏:‏ كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيات‏.‏

وقال قتادة وعطاء‏:‏ كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب عليها بين يديه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 15‏]‏

‏{‏وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُولَئِكَ الأحْزَابُ ‏(‏13‏)‏ إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ‏(‏14‏)‏ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُولَئِكَ الأحْزَابُ‏}‏ الذين تحزبوا على الأنبياء، فأعلم أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب‏.‏

‏{‏إِنْ كُلُّ‏}‏ ما كل، ‏{‏إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ‏}‏ وجب عليهم ونزل بهم عذابي‏.‏ ‏{‏وَمَا يَنْظُرُ‏}‏ ينتظر ‏{‏هَؤُلاءِ‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة، ‏{‏إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً‏}‏ وهي نفخة الصور، ‏{‏مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي‏:‏ ‏"‏فواق‏"‏ بضم الفاء، وقرأ الآخرون بفتحها وهما لغتان، فالفتح لغة قريش، والضم لغة تميم‏.‏

قال ابن عباس وقتادة‏:‏ من رجوع، أي‏:‏ ما يرد ذلك الصوت فيكون له رجوع‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ نظرة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ مثنوية، أي صرف ورد‏.‏

والمعنى‏:‏ أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف‏.‏

وفرق بعضهم بين الفتح والضم، فقال الفراء، وأبو عبيدة‏:‏ الفتح بمعنى الراحة والإفاقة، كالجواب من الإجابة، ذهبا بها إلى إفاقة المريض من علته، والفواق بالضم ما بين الحلبتين، وهو أن تحلب الناقة ثم تترك ساعة حتى يجتمع اللبن، فما بين الحلبتين فواق، أي أن العذاب لا يمهلهم بذلك القدر‏.‏

وقيل‏:‏ هما أيضًا مستعارتان من الرجوع، لأن اللبن يعود إلى الضرع بين الحلبتين، وإفاقة المريض‏:‏ رجوعه إلى الصحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 17‏]‏

‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏16‏)‏ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ‏}‏ قال سعيد بن جبير ‏[‏عن ابن عباس‏]‏‏:‏ يعني كتابنا، و‏"‏القط‏"‏ الصحيفة التي أحصت كل شيء‏.‏

قال الكلبي‏:‏ لما نزلت في الحاقة‏:‏ ‏"‏فأما من أوتي كتابه بيمينه‏"‏ ‏[‏الحاقة - 19‏]‏، ‏"‏وأما من أوتي كتابه بشماله‏"‏ ‏[‏الحاقة - 25‏]‏ قالوا استهزاء‏:‏ عجل لنا كتابنا في الدنيا قبل يوم الحساب‏.‏ ‏[‏وقال سعيد بن جبير‏]‏‏:‏ يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول‏.‏

وقال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والسدي‏:‏ يعني عقوبتنا ونصيبنا من العذاب‏.‏

‏[‏وقال عطاء‏:‏ قاله‏]‏ النضر بن الحارث، وهو قوله‏:‏ ‏"‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء‏"‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏ 32 ‏]‏‏.‏

وعن مجاهد قال‏:‏ ‏"‏قطنا‏"‏ حسابنا، ويقال لكتاب الحساب قط‏.‏

وقال أبو عبيدة والكسائي‏:‏ ‏"‏القط‏"‏‏:‏ الكتاب بالجوائز‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏أي على ما يقوله‏]‏ الكفار من تكذيبك ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي القوة في العبادة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ ذو القوة في الملك‏.‏

‏{‏إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ رجاع إلى الله عز وجل بالتوبة عن كل ما يكره، قال ابن عباس‏:‏ مطيع‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ مسبح بلغة الحبش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 20‏]‏

‏{‏إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ ‏(‏18‏)‏ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ‏(‏19‏)‏ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ‏}‏ كما قال‏:‏ ‏"‏وسخرنا مع داود الجبال‏"‏ ‏[‏الأنبياء - 79‏]‏ ‏{‏يُسَبِّحْنَ‏}‏ بتسبيحه، ‏{‏بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ غدوة وعشية‏.‏ والإشراق‏:‏ هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها وفسره ابن عباس‏:‏ بصلاة الضحى‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن نصير، أخبرنا أبو بكر الهذلي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏"‏بالعشي والإشراق‏"‏ قال‏:‏ كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الضحى، فقال‏:‏ ‏"‏يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالطَّيْرَ‏}‏ أي‏:‏ وسخرنا له الطير، ‏{‏مَحْشُورَةً‏}‏ مجموعة إليه تسبح معه، ‏{‏كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ‏}‏ مطيع رجاع إلى طاعته بالتسبيح، وقيل‏:‏ أواب معه أي مسبح‏.‏

‏{‏وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ‏}‏ أي‏:‏ قويناه بالحرس والجنود، قال ابن عباس‏:‏ كان أشد ملوك الأرض سلطانًا، كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن، حدثنا داود بن سليمان، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا محمد بن الفضل، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علي بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم عند داود - عليه السلام - أن هذا غصبني بقرًا، فسأله داود فجحد، فقال للآخر‏:‏ البينة‏؟‏ فلم يكن له بينة، فقال لهما داود‏:‏ قوما حتى أنظر في أمركما، فأوحى الله إلى داود في منامه أن يقتل الذي استعدى عليه، فقال‏:‏ هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأوحى إليه مرة أخرى فلم يفعل، فأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة، فأرسل داود إليه فقال‏:‏ إن الله أوحى إلي أن أقتلك، فقال‏:‏ تقتلني بغير بينة‏؟‏ قال داود‏:‏ نعم والله لأنفذن أمر الله فيك، فلما عرف الرجل أنه قاتله، قال‏:‏ لا تعجل حتى أخبرك، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فلذلك أخذت، فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود، واشتد به ملكه فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏وشددنا ملكه‏"‏‏.‏

‏{‏وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ‏}‏ يعني‏:‏ النبوة والإصابة في الأمور، ‏{‏وَفَصْلَ الْخِطَابِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بيان الكلام‏.‏

وقال ابن مسعود، والحسن، والكلبي، ومقاتل‏:‏ علم الحكم والتبصر في القضاء‏.‏

وقال علي بن أبي طالب‏:‏ هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به‏.‏

ويروى ذلك عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ ‏"‏فصل الخطاب‏"‏‏:‏ الشهود والأيمان‏.‏ وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح‏.‏

وروي عن الشعبي‏:‏ أن فصل الخطاب‏:‏ هو قول الإنسان بعد حمد الله والثناء عليه‏:‏ ‏"‏أما بعد‏"‏ إذا أراد الشروع في كلام آخر، وأول من قاله داود عليه السلام‏.‏